الكلاب … يريدون تخريب البلد … يريدون هدمها على رؤوسنا … كان غاضبآ .. محتدآ … وجهه أحمر كأنه سكران .. أتخيله يقف أمامي الآن .
تابع حديثه … لقد هاتفني الحاكم العسكري … طلب منا إنزال العلم عن الشجرة اللعينة .. على الطلاب تنظيف مقاعدهم من الكتابات والشعارات … أين هي فلسطين التي يكتبون إسمها على المقاعد …كلاب مخربون .
سيأتي الحاكم العسكرى إلى القرية … سيزور المدرسة .. لا يريد أن يري شيئآ من الكلام الذي لا معنى له … سيدخل ويفتش الصفوف صفآ صفآ .
هذه الكلمات التي إستطعت سماعها من مختار القرية .. عندما طلب مني المعلم أن أذهب إلى غرفة المدير وأحضر له الأقلام الملونه ، سمعتها قبل أن يلتفت إلي المدير ويسألني عن حاجتي ، كان مربكآ .. خائفآ بصورة لم نتعود عليها نحن الطلاب .. لسانه معقود أمام المختار الكهل .. الذي لا يخيف خروفآ صغيرآ .. الذي سمعت زوجته تصرخ عليه أكثر من مرة وأنا ذاهب إلى المدرسة .
لم يكن عمري يتجاوز الثلاثة أو الأربعة عشر عامآ تلك الأيام ، المختار يسب ويشتم الأشخاص الذين رفعوا العلم على شجرة المدرسة ، يتمنى ألا يكونوا من القرية ، يتمنى أن يكونوا من الفدائيين الذين كنا نسمع عنهم يعبرون الحدود اللبنانية ، لم يتخيل أو ربما لا يريد أن يتخيل أن يكونوا من أبناء القرية .
ربما يكونوا من أحدى القرى المجاورة ، فالجيش إعتقل خلية في تلك القرية ، كنت أسمع هذا الكلام ولا أدركه ، خلية ..لبنان ..فدائي .. آر بي جي.. كلاشنكوف .. روابط قرى .. هوية .. تصريح … ، علم فلسطين … وعلى شجرة وفي مدرستنا .
حذر المدير وقال له : إذا كان من رفع العلم من طلاب المدرسة ، ستخرب البلد ، سيدخل الكثيرون إلى السجن ، بل لن يسمحوا لنا بالعمل عندهم ، ألم تسمعوا ماذا فعلوا بالقرية المجاورة ، لقد منعوهم من الخروج من منازلهم حتى تم تسليم الشخص الذي قص جزءآ من السلك الشائك حول المستوطنة .
عندما رجعت إلى غرفة المدير لأعيد الألوان سمعته يتشاور مع المختار كيف سيتم إنزال العلم عن الشجرة ، هؤلاء المخربون إختاروا أطول شجرة سرو ، ربطوا العلم على قمتها ، كيف فعلوا ذلك ، لا بد أنهم إستخدموا سلمآ طويلآ ، لكنني أعلم أنه لا يوجد سلمآ واحدآ في القرية يصل لأقل من ربع هذا الإرتفاع ، أأكد أنهم من خارج القرية ، ولو كان أحد الطلاب أنا واثق من أنك كنت ستعرفه بسرعة .
أوشكت أن أضحك عندما سمعت المختار يتحدث بهذا للمدير ، المهم كيف سننزل قطعة القماش اللعينه ، لقد وعدني الحاكم العسكري أن لا يُصعد الأمور إذا تم إنزاله وتسليمه هذا اليوم للحاكمية العسكرية ، ستطلب من أحد الطلاب أن يصعد وينزله ، أو نقطع الشجرة .. لم نعد نريدها.
لم تكن الشجرة الوحيدة في ساحة المدرسة ، بل كانت الأعلى ، الوحيدة التي كنا نتحدى بعضنا على الصعود عليها والوصول لقمتها عندما كنا نذهب للعب في المدرسة بعد الدوام ، نجح بعضنا ووصل القمة .
بناء على طلب من المختار ألقى المدير كلمته الغير معتاده في الوقت الغير معتادين عليه ، بلغته المعتاده ، طلب من أحد الطلاب الذين لديهم الجرأة ليخرج ويعتلي الشجرة لإنزال العلم ، وتحدث عن ضرورة تنظيف المقاعدة من كلمة " فلسطين " ، تفقد الكتب ومسح أي عبارة ننحدث عن " المنظمة " أو لبنان أو سوريا ، ممنوع كتابة إسم القدس …، كل طالب يفتش جسمه.. يديه ساعده .. إذا كان قد وشم شيئآ عليه أن يتخلص من الوشم ، على الطلاب الذين يحملون الوشم التخلص بأي طريقة يحرقون جلدهم ، يفعلون أي شئ ، حرق الدنيا أخف وأهون من حرق الآخرة ، فقد قال أن الوشم يدخل صاحبه جهنم ، رغم أنه كان هناك وشم ورسوم لم أفهمها على ظهر يد المختار ، وإستغربت كيف تجرأ المدير وقال أن الوشم حرام على مسمع المختار الذي حيْياه رغم هذا ، وأكد صحة حديث المدير حول حرمة الوشم .
بهذه الكلمات أفتتح المدير خطبته ، وتحدث كثيرآ عن أهمية العيش بهدوء ، وكيف علينا أن نشعر بهموم أهلنا ونساعدهم على أعباء الحياة الصعبة التي نعيش ، وكيف نُنقذ قريتنا المسالمة من الوقوع في المشاكل ، وتحدث عن أمور كثيرة لا أتذكرها لأنني لم أكن منصتآ إليه ، بل كنت متسمرآ أنظر إلى العلم ، أتخيل كيف سيقطعون الشجرة لأن أحدآ لن يخرج من الطلاب ويتسلقها ، فلم يكن أكثر من ثلاثة من بين الطلاب يستطيعون نسلق الشجرة ، وأعلم أنهم يكرهون المختار والمدير ، لذلك لن يساعداهما في إنزال العلم ، أحضروا شخصآ من القرية ودفعوا له خمسة دنانير ، فقد أجبروا كل طالب ان يدفع ثلاثة قروش ، قطع الرجل الشجرة وإعتقل المختار العلم ، وطلب المدير من العامل أن يُقطع الجذوع ويأخذ الحطب إلى بيت المختار .
كالعاده عدنا إلى المدرسة بعد الدوام ، لكن لم يكن الأمر عاديآ ، شجرتنا التي كنا نتسلقها مقطوعة ، سنبحث عن شجرة أخرى نصعدها ، لن نجد بطول الشجرة التي قطعوها ، أصبحت لعبتنا ممله ، لذلك جلسنا ، نتحدث ونحن نحرك بقايا نشارة الخشب بأيدينا ، نشعر ان هناك شيئآ يربطنا بهذا الأثر ، ثلاثتنا نكره الجيش والحاكم العسكري والمختار وكذلك المدير .
المختار …. كنت أكرهه لأن أبي كان يجبرني أن أبعث له علبة من الشوكلاته ، وخمسة دنانير ومطربان من العسل عندما تلد أمي طفلآ ليسجل أخي أو أختي المولوده ، وما أكثر ما ولدت أمي ونساء قريتنا ، وأيضآ لم نكن نأكل الشوكلاته إلا في العيد ، او بعض القطع التي كنت أسرقها من علبة المختار ، حتى أنه راجع أبي أكثر من مرة وقال له أن العلبة ناقصه أربع أو خمس حبات ، وكان أبي يعاقبني ، إلا انه كان يطلب مني كل مرة أن أبعث علبة المختار ، أيضآ كان يرعى بأغنامه في حقول المزارعين دون أن يشاورهم ، كان كل رجال القرية يخافون منه ، لم يكن أحدآ يجرؤ أن يجلس في الكرسي الأمامي للباص الذي كان يأخذنا إلى المدينة ، فربما يذهب المختار في ذاك اليوم إلى المدينة ، لكني سمعت في الفترة الأخيرة ان شبانآ ذههبوا إلى حقل المختار وقطعوا بعض الأشجار ، وحتى أنهم وضعوا صمغآ على كرسي المختار في الباص .
مدير المدرسة …. كان ياخذ الطلاب في حصة الرياضه والنشاط واللغة العربية ليساعدوا زوجته على قطاف الزيتون ، أجبرنا على حفظ سورة التين من القرآن الكريم في أيامنا الأولى من الصف الأول ، لنعرف قيمة هذه الشجرة المباركه ، كان يضرب الطلاب بقسوة ، ذات مرة طلب منا أن نذهب لمساعدة البناء الذي يعمل في بيت شقيقة ، وأقنعنا انه سيطلب من أستاذ اللغة الإنجليزية أن يسجل لكل طالب عشرة علامات زيادة عن تحصيله .
الحاكم العسكري … لم اكن اعرفه ، ولا اعرف علاقته بالقرية ، لكن عندما جاء إلى المدرسة كان يرتدى نفس الزي الذي يرتديه الجيش ، وهو الذي كان يتحدث دائمآ والبقية يستمعون إليه لدرجة الإندهاش ، والإبتسام خصوصآ المختار والمدير .
الجيش … لم أكن أدرك معنى الإحتلال ، لكني كنت أكره الجنود ، لأنهم كانوا يأتون إلى القرية بسياراتهم ، كانت سياراتهم تسير بسرعة جنونية ، حتى انهم ذات مرة دهسوا دجاجة جارتنا أم محمد التي كنا نشتري البيض من عندها ، أغلب المرات كانت تعطيني بيضةًَ زيادة ، وبعد هذه الحادثة توقفت أم محمد عن عادتها ، ومن يومها كرهت الجيش ، أيضآ زوجة عمي كانت تكرههم ، بل تخاف منهم ، لدرجة أنها كانت تأخذ الكوفية التي كان يلف عمي دواءه فيها وتخبئها في مخزن التبن ، وكأن الدواء كان مهرب من لبنان ، كنت أكره الجيش لأنهم كانوا يعبرون بسياراتهم كما تعبر أغنام المختار في حقول المزارعين ، فكانوا يخربون حقول القمح التي إنتظرها المزارعون ستة أشهر كاملة ، ويعلم الله كيف سيكون الموسم القادم ، أعرفتم لماذا كرهت الجيش ، لأنهم كانوا يصلون بسياراتهم لكل الأماكن ، ويذهبون لأي مكان دونما هدف في الحقول وأعالي الجبال ، حتى اننا كنا نحتار أين نضع المسامير لنعطلها ، وكنا نتعب في الوصول لكل الأماكن التي كانوا يصلونها ، وأكثر من مرة تعطلت عجلات جرارات المزارعين من أبناء قريتنا رغم أننا كنا ندعو الله أن لا يمروا من هذه الأماكن .
من قال لكم أننا نكره الإحتلال ، فنحن لم نكن نعرفه أصلآ ، ولكن كنا نعرف أن عائلة الأطرش التي تسكن قريتنا جائت من قضاء حيفا التي يسكنها اليهود ، والتي يعمل فيها أبي عند المعلم " مردخاي " ، تمنيت لو كنا من تلك القرية ، لأن حصة هذه العائلة من طحين وكالة الغوث كانت أكبر من حصتنا ، كانوا مرتاحين من العمل في الأرض ، بينما نحن نعمل ونتعب ونزرع وتأتي سيارات الجيش لتسحق كل تعبنا ، كيف لا نكره الجيش ، لكننا لا نكره الإحتلال ، ولا يوجد ضغن بيننا وبين الحاكم العسكرى .
لم نتفق أن نفعل شيئآ ، لم نقرر أن هناك إجتماعآ ، لم تكن هناك غرفة عمليات لتدارس موضوع المختار ، كل ما في الأمر أننا وجدنا قطعة من الفحم ، بعد حديث قصير عن المدير ، من سيعاقب من الطلاب المساكين ، كل تفكيرنا كان كيف قطعوا الشجرة التي كنا نتسلى ونلعب معها ، قتلوها وأعدموا العلم ؟؟؟
بدون قرار بقينا جالسين ، لم نجد شجرة تشبع توقنا للتسلق ، دونما تخطيط وبعد ان حل الظلام وخصوصآ أنه لم يكن كهرباء في القرية ، وبعد أذان المغرب عدنا ادراجنا إلى منازلنا ومعنا قطعة الفحم ، وبدأنا نكتب على حائط منزل المختار " فاليسقط المختار " " فاليسقط مدير المدرسة " " يجب تغيير المختار " ، لم نكن نعني شيئآ ، كل ما عنيناه تلويث سور منزل المختار .
عدنا إلى بيوتنا ، لم نُحدث أحدآ عن فعلتنا ، لم نعتبرها فعلة غير عادية ، شقاوة أطفال ، كما كنا نتسلق شجرة السرو كل يوم ، كتبنا بالفحم على سور منزل المختار ، لم نعير الموضوع أي إهتمام ، كما حصل مع شجرات المختار ، وسيارات الجيش وكُرهَنا للمدير الذي وضعنا قليلآ من السكر في خلطة الإسمنت عندما أجبرنا على الذهاب لمساعدة البناء الذي يبني منزلآ لأخيه .
في اليوم التالي – أعنقد انه كان يوم أحد - ونحن واقفون في الطابور الصباحي تفاجئنا أن المختار واقفآ مع المدير ، تحدث المدير مستقويآ بالمختار ، وقال أن هناك " زعرانآ " كتبوا خرابيش على دار المختار ، وأنه سيطرد من المدرسة الطالب الذي سيثبت لاحقآ أنه فعل هذا ، عليكم أن تتأسفوا للمختار على الفعلة ، كان المدير متلبكآ ليس كعادته ، لم أدرك سبب الضعف الذي أصاب المدير ، لكني أدركت ذلك عندما كبرت ، أدركت كم كان جبانآ وخائفآ من شئ مجهول ، شيئآ أكبر منه ومن المختار ومن الجيش ومعه الحاكم العسكري وحزام أبي ، لم نكن نستشعره في تلك الأيام ، لم نكن نشعر شيئآ إسمه الإنتماء للوطن ، لم نكن نعرف أن هناك أشخاصآ أكبر منا يحموننا بسمعتهم دون أن يعرفونا أو نتفق معهم … لكن المدير والمختار والحاكم العسكري كانوا يعرفونهم ويخافون منهم .
عندما كنت أسمع فدائي كنت اتخيل أشياء كبيرة ، إحترام الإنبياء ، وشموخ شجرة السرو التي رفعت العلم وقطعوها ، ورضاي عندما كنت أبعث هدية الداية التي كانت تلازم أمي عند الولاده ، فقد كنت أشعر انها تأخذ حقها ، رغم أن هديتها كانت تتميز عن هدية المختار ، فقد كنا نضع لها صابونة نابلسية زيادة ، ولم أكن أفتح علبة الشوكولاته خاصتها رغم اني كنت أتوق لذلك ، ورغم أني كنت أخشى كلمة فدائي إلا أنني كنت أطرب لسماعها ، أتخيل موسم القمح القادم بعد أن تدوس عجلات سيارات الجيش قمحنا هذا العام ، أحس بحنان أمي وأقارنه بخوف أبي من أن يمنعوه من العمل مرة أخرى في حيفا لإنهم منعوا غيرة الكثيرين " سأقص عليكم لاحقآ قصة أبي مع تصريح العمل في قصة أخرى " .
لم أعرف ما دار بين المختار والمدير من حديث قبل الطابور الصباحي ، لكني سمعت أبي يقول لأمي أنه سيذهب هذا المساء إلى بيت المختار ، فهناك إجتماع لأهالي الطلاب ، لم أدرك حقيقة ما دار من حديث بين أبي وامي ، ولم اعير الزيارة أي إهتمام ، فكل رجال القرية يحاولون التقرب من المختار وكسب رضاه ، وضعت أمي قليلآ من العسل في مطربان وأعطته لأبي ليعطيه للمختار ، فهي حامل وسيأتي لنا أخ أو أخت جديدة ، وكانا قد إتفقا إذا كان المولود ذكرآ أن يسمياه على إسم المختار ، لذا تمنيت من كل قلبي أن يكون المولود أنثى ، وإذا كان ذكرآ تمنيت له الموت ليموت معه المختار ، لأني لا أريد أن أذهب مرة أخرى إلى منزلة حاملآ " هدية المختار " .
يوم الإثنين اليوم التالي لإجتماع رجال القرية في منزل المختار ، حمدت الله كثيرآ أنني وإخوتي تناولنا طعام الإفطار مع أبي ، لن تحدث مشاكل كما كل صباح ، اليوم سنتناول الغداء مع أبي أيضآ ، بعد أن نعود من المدرسة ، ذهبت وإخوتي إلى المدرسة ، كانت الساعة السابعة والربع ، عندما رن الجرس الساعة الثامنة إلا عشر دقائق ، على غير العاده تأخر عشرة دقائق ، وقفنا في الطابور ، حمدت الله أنني لم أرى وجه المدير ، كما حمدته على رؤيتي أبي بعد العودة من المدرسة ، فقد كان أبي يخرج إلى العمل الساعة الثالثة والتصف صباحآ ، ويعود الساعة السادسة مساءآ ، إرتحنا من عظة المدير التي لا أحب سماعها .
أبي …. زوج أمي …مزارع بسيط ، أصبح عاملآ يعمل في " إسرائيل " ، يخاف الحياة كثيرآ ، كان يحب المختار لدرجة الخوف أن يدخل أغنامه إلى حقلنا ، يخرج للعمل الساعة الثالثة والنصف صباحآ يعود الساعة السادسة ، يتناول طعام الغداء أو العشاء وينام ، بعض الأيام كانت أمي تسخن له الماء ويستحم ، وأكثر الأيام لم يكن يستحم ، كان ينام هكذا ، أيام أخرى كانت أمي تسخن له الماء في وقت متأخر عندما يكون إخوتي نيام ، وقبل أن يأتوا لنا بأخ أو أخت جديد بتسعة أشهر ، بعض الأيام كان يدرك صلاة العشاء وغالبها لم يكن ، لم يهمه تحصيلنا الدراسي كثيرآ ، فعنده تسعة من الأولاد وأربعة من البنات ، ولن يخيب الله رجاءه ويخرج منهم واحدآ متفوقآ ، وإن لم يكن على الأقل جيدآ في دروسه ، لم يكن يعلم أنني قلت لشجرات المختار المقطوعات أن يبلغنه بالكف عن الدخول إلى حقولنا .
سمعت بعض الطلاب الأكبر منا سنآ يقولون ان الحاكم العسكري قد إستدعى كل أهالي طلاب المدرسة إلى مقره في المدينة ، لم أدرك معنى هذا ، لكنني عندما عدت إلى البيت من المدرسة ، عرفت أن أبي كان واحدآ من هؤلاء الرجال الذين تم إستدعائهم ، فهو لم يكن بالبيت ، ولم يذهب للعمل ؟ ، الآن عرفت من يكن الحاكم العسكري ، فأبي عاد إلى البيت وإخوتي نيام ، كانت الساعة التاسعة مساءآ ، كنت أنتظره مع أمي وكل نساء القرية ، أربعة أيام متتالية تناولت طعام الإفطار مع أبي ، رغم انه لم يحدثني ماذا كان يفعل هناك ، لكنني لم أجرؤ على سؤاله ، كل ما كنت اتمناه أنني وإخوتي في عمر أصغر من المدرسة ، فقد كنت أقرأ علامات الغضب والذل بعينيه ، حتى أنني لم أكن أجرؤ أن أطلب من أخي الصغير ليطلب منه شراء " الهريسة " من المدينة ، كما كان يحصل في مرات سابقة ، ومع ذلك إرتحت من رؤية وجه المدير أربعة أيام .
بقي الحاكم العسكري يستدعي أهالي القرية من أولياء أمور الطلاب من يوم الإثنين لغاية يوم الخميس ، نهاية الأسبوع الدراسي ، من هذه اللحظة بدأت أكره الحاكم العسكري ، رغم أنه أراح الطلاب أربعة أيام كامله من رؤية وجه المدير والمختار الذي كان يقع بيته على طريق المدرسة ، والذي كان ينظر بعين الحقد والحسد للطلاب ، لإنه تزوج أربعة مرات ولم ينجب أيآ من الأولاد ولا البنات ، أربعة ايام مارسنا فيها كل هواياتنا في اللعب أثناء الإستراحة ، حتى أن المدرسين كانت تبدر عنهم إبتسامات ، وكنا نقرأ الفرحة في عيونهم ، بإستثناء أستاذ واحد ، كان مختلفآ عن البقيه ، شديد الغضب ، وسألنا إذا كنا نعرف من رفع العلم ، وانه سيعطي عشرين علامة زيادة للطالب الذي سيقول له من رفع العلم ، بعد يومين قالوا أن أشخاصآ رموا الحجارة على منزله وكسروا زجاج الشبابيك .
يوم الجمعة لم يذهب أبي للعمل ، على غير عادته ، في المساء خرج من البيت وقال لأمي انه ذاهب لبيت المختار ، وكانت تعلو وجهه إبتسامه ، تجرأت وسألته لماذا ستذهب ؟؟ قال : سنختار مختارآ آخر للقرية ، فقد قدم المختار إستقالته ، هذه المرة لم تطلب أمي من أبي أن يحمل هدية المختار ، طاب لي الموضوع وإبتسمت .
بعد أن أصبح عمري سبعة عشر عامآ ، عرفت أن المختار قد سقط ، وأن أهالي القرية قد إختاروا لجنة لتدير شؤونهم ، وتوقفت أغنام المختار عن الدخول لحقولنا ، وبقيت عِبارة " فاليسقط المختار " ثلاث سنوات بعد سقوطه ، رغم المحاولات الكثيرة لمسحها ، او ان أحدآ لم يعيرها إهتمام ، وفي أيامنا هذه أصبح العلم الفلسطيني مرفوعآ على سارية ، لكن ليس مكان الشجرة المقطوعة ، ولا زالت سيارات الجيش تأتي إلى قريتنا ، لا تعير العلم إهتمامآ ، ورحم الله أم محمد جارتنا لأن سيارات الجيش لن تدهس لها دجاجة أخرى .
27.9.2009